ضمن مسلسل الاستهداف الذي يقوم به العدو الصهيوني في عدوانه المتواصل على قطاع غزة ألحقت الحرب الأخيرة أضراراً واسعة في كافة مناحي الحياة الفلسطينية, ولم تستثني هذه الحرب المباني الأثرية والتاريخية التي تعمد الاحتلال استهدافها بشكل مباشر مما أدى إلى تدميرها كلياً أو جزئياً, وقد أصابت هذه الاعتداءات عدة مباني ومواقع مسجلة على اللائحة التمهيدية للتراث العالمي، وذلك ضمن منهج احتلالي في شطب أي ارث تاريخي فلسطيني تجسده هذه المعالم,
أما عن الاستهداف المباشر فقد تركز في كلاً من مسجد الظفردمري المملوكي الذي يعد أحد أبرز المعالم الأثرية الإسلامية في حي الشجاعية حيث تعرض لإصابة مباشرة نتيجة استهداف المسجد الحديث الملحق به مما نتج عنه تصدعات في الجدران الأثرية والأسقف المشكلة من العقود المتقاطعة، وتهدم في بعض أجزاء الجدران الاثرية، وحدوث حفرة نتيجة إصابة مباشرة لشظية في جزء من السقف الاثري من الأعلى. والمسجد العمري في جباليا للاستهداف المباشر والذي يقع في قلب بلدة جباليا القديمة ويعود للعصر المملوكي, حيث أدى القصف لتدمير الضريح التاريخي المجاور للمسجد وقبة الضريح, إضافة إلى انهيار الجدران الأثرية الشرقية للمسجد وانهيار في سقف العقود المتقاطعة في الجهة الشمالية الشرقية وتهدم جزء كبير من دروة السطح. وأما جامع المحكمة البردبكية بحي الشجاعية والمملوكي الطراز والذي يعود إلى القرن 15 الميلادي فقد استهدف يقذائف مباشرة أدت إلى تسويته بالأرض, حيث لم يبق منه سوى المئذنة.
وأما عن الاستهداف غير المباشر والأضرار الجزئية فقد حدث نتيجة استهداف الأراضي الزراعية المتاخمة والمجاورة للمواقع الأثرية الممتدة على طول القطاع, ومنها موقع دير القديس هيلاريون في النصيرات, والذي يعود للفترة البيزنطية، وظهر على خارطة مادبا من القرن السادس الميلادي، وهو مسجل ضمن اللائحة التمهيدية للتراث العالمي. حيث تعرض تصدعات كبيرة في الجدران الأثرية خصوصاً الواجهة الشرقية منه ومنطقة القبو والديماس, وأما موقع تل رفح على الحدود الفلسطينية المصرية فقد أصيب بأضرار واسعة نتيجة استهدافه حيث يعود تاريخ الموقع إلى العصر البرونزي والحديدي, إضافة إلى أضرار جزئية وتصدعات في الجدران الأثرية في موقع البلاخية (الأنثيدون) والذي يمثل ميناء غزة القديم ويعود تاريخه الى العصر الحديدي والهلنستي. وهو مسجل ضمن اللائحة التمهيدية للتراث العالمي, إضافة إلى أضرار في الأرضية الفسيفسائية وفي جدران مقام ابراهيم الخليل في عبسان, ومقام النبي يوسف شرق جباليا والذي يعود للفترة العثمانية, ومقام تل المنطار المملوكي بالشجاعية. كما أنه تما قصف مكرر على محمية وادي غزة الطبيعية والمسجلة ضمن اللائحة التمهيدية للتراث العالمي لما تمثله من نموذج فريدا للتنوع الحيوي، خصوصا للطيور المهاجرة, إضافة إلى قصف موقع تل السكن في مدينة الزهراء، وهو موقع أثري من العصر البرونزي المبكر، حيث تسبب في خلخلة أرضيات الموقع نتيجة الاستهداف. إضافة إلى أضرار جزئية في التغطيات الواقية لأرضيات الفسيفساء بموقع الكنيسة البيزنطية في جباليا وكنيسة أصلان البيزنطية في بيت لاهيا, وتدمير جزئي لمقبرة الكومنويلث التي تضم رفات لضحايا الحرب العالمية الثانية.
لقد سن المجتمع الدولي مجموعة من المواثيق والاتفاقيات الداعية إلى حماية مواقع التراث الثقافي أثناء الحروب والنزاعات عبر مؤسساته المختلفة مثل اليونسكو ومركز التراث العالمي والايكوموس والايكروم ومجلس الاثار العالمي. وبعد حصول فلسطين على دولة عضو غير مراقب في الأمم المتحدة انضمت إلى معاهدة لاهاي في أبريل 2014 وهي تخص تجنيب المحايدين في الحروب, ويحق لفلسطين الانضمام إلى 63 معاهدة دولية, أما عن اتفاقية لاهاي لحماية الممتلكات الثقافية (1954) فهي الصك الدولي الرئيسي المخصص لحماية الممتلكات الثقافية في حالات النزاع المسلح. صادق على هذه الاتفاقية حتى الآن أكتر من 120 بلدا, وقد نصت الاتفاقية أنه (في حال النزاع المسلح فإن جميع الأطراف في الاتفاقية مطالبة باحترام الممتلكات الثقافية الموجودة داخل أراضيها وكذلك في أراضي الأطراف الأخرى، وذلك بالامتناع عن استخدامها لأغراض عسكرية، والامتناع عن ارتكاب أي عمل عدائي ضدها), وقد جاء في البروتوكول الثاني للاتفاقية “حماية الممتلكات الثقافية حال نزاع مسلح” مارس 1999 أنه (عندما يكون أحد أطراف النزاع المسلح غير مرتبط بالاتفاقية، يظل الطرف الآخر مرتبط به في علاقته بالدولة طرف في النزاع) وانه (لا يجوز التذرع بالضرورات العسكرية القهرية للتخلي عن الالتزامات من أجل توجيه عمل عدائي ضد ممتلكات ثقافية, وأنه (يجب على الأطراف الموقعة على الاتفاقية بذل الوسع للتحقق من أن الأهداف المزمع مهاجمتها ليست مواقع تراث ثقافي. واتخاذ جميع الاحتياطات المستطاعة عند تخير وسائل الهجوم بهدف تجنب الإضرار العرضي بالممتلكات الثقافية. والامتناع عن شن هجوم قد يتوقع تسببه في إلحاق أضرار بممتلكات ثقافية. إن هذه المؤسسات وبموجب هذه الاتفاقيات مدعوة لأن تقوم بدورها في حماية التراث الثقافي الفلسطيني، وأن تدين هذا العدوان الذي يمثل انتهاك صارخ للقانون الدولي وإلى اتخاذ إجراءات قانونية وفاعلة لمحاسبة الاحتلال على مواقع التراث الثقافي.